السلام الحقيقي !
المعنى الحقيقي للسلام
يحكى أنه كان هناك ملك قرر أن يمنح جائزة لمن يرسم أجمل لوحة تعبر عن السلام . حاول الكثير من الرسامين رسم تلك اللوحة ، و لكن جميع محاولاتهم بالفشل باءت ، حيث لم تعجب الملك أيا من تلك اللوحات .
و في أحد الأيام حضر القصر رسامان ، يحمل كــل منهما لوحته التـي تعبر عــن السـلام ، وحار الملك في أمره ، و لم يعرف أي اللوحتين يختار ، فقد كانت كلتا اللوحتين تعبر عن السلام بمنظور مختلف .
كانت اللوحة الأولى تصور بحيرة هادئة تعكس صورة جبل ضخم شاهق الارتفاع ، و تمتد على الافق البعيد سماء زرقاء ملأى بسحب كثيفة . و قد أجمع كل من رأى اللوحة على أنها ولا ريب اللوحة المثالية للتعبير عن السلام .
وذلك علـى نقيض اللوحة الثانية ، التي كانت عبارة عــن جبــال كذلك ، ولكنهـا كانت وعـرة و صعبة المسالك ، سمائها ملبدة بالغيوم ، و الأمطار تنهمر بغزارة ، يصاحبها رعد و برق شديدان . و على أحد جوانب الجبل ينحدر شلال ، تتدفق المياه منه بغزارة . و للوهلة الأولى تبدو هذه الصورة غير معبرة عن السلام البتة . و لكن عندما أنعم الملك النظر في اللوحة ، شاهد خلف الشـلال شجيـرات صغيرة نبتت مـن شق في صخــرة ، وقـد بنت عليـه عصفــورة عشهــا . و رغم الانحدار الشديد لمياه الشلال ، رأى الملك العصفورة قابعة في مكانها في سلام تام .
في رأيك أي اللوحتين اختار الملك لتفوز بالجائزة ؟
لقد اختار الملك اللوحة الثانية ، هل تعرفون لماذا ؟ لأن السلام لا يعني بالضرورة أن تعيش في مكان يخلو من الضوضاء و الحروب و المجاعات و الأعمال الشاقة . و لكن السلام الحقيقي هو أن تكون وسط كل هذه الأشياء - أو إحداها - ومع ذلك تشعر بالسلام .
و نلمس هـذا كثيرا فــي حياتنا ، فالسلام الحقيقي لا يعني أن يعيش الإنسـان ــ مثــلا ــ في قصــرمشيد ، و مع أسرة غنية ، و خدم و حشم يوفرون له وسائل الراحة و الرفاهية . فنحن نرى مثلا الكثير من المشردين ، و الفقراء ، و اليتامى ، والجوعى والذين فقدوا ذويهم في الحروب ، ومع ذلك ، نجد الكثير منهم راضيين و سعداء بما قسمه الله لهم . نرى – على سبيل المثال - الأم التي استشهد ابنها فـي سبيــل الله سعيدة و مغتبطــة ، و تمني نفسها بلقاءه في الجنة بإذن الله . السلام الحقيقي ليس أن يكون للابن أبوين مثاليين و رائعين ، يعينانه على طاعتهما . ولكن السلام الحقيقي هو أن يكون أبويه غير ذلك ، و مع هذا هو يبرهما ، و يدعو الله أن يعينه على ذلك ، و يشعر بلذة طاعة الله ، و بر الوالدين . السلام الحقيقي ليس أن تخـلو الحيــــاة الزوجية مـــن المصــائب والمشاكـــل والمشاحنــات ، و لكـن أن يوجد كل هــذا ، و ينجح الزوجين في التغلب عليه وعيش حياة هنيئة و سعيدة .
وتاريخنا الإسلامي عامر بالكثير من الأدلة التي تبين المعنى الحقيقي للسلام . فخباب بن الأرت رضي الله عنه و أرضاه ، كان يعذب من قبل أم أنمار التي كانت تأخد حديدة محمية من الموقد ، و تضعها على رأسه حتى يدخن رأسه ، و يغمى عليه .عندما نتخيل نحن هذا الموقف يخيل إلينا أن خباب بن الأرت هو الذي يعاني . و لكننا إذا تأملنا الموقف عن قرب ، سنجد أن خباب بن الأرت كان في سلام مع نفسه رغم التعذيب الذي كان يلقاه . بينما كانت أم أنمار تشتعل غيظا و حقدا لثباته و تمسكه بموقفه . و كذلك كان بلال بن رباح رضي الله عنه ، كان إذا عذبه أحد صناديد قريش و هو أمية بن خلف صبــر و ردد بأعلى صوته : أحد .. أحد . فكان أمية يعذبه حتى تكل يده ، و بلال ثابت على موقفه ، راسخ رسوخ الجبال . ولما كان يأمره أن يرجع عن دين محمد ، و يعده إن فعل ذلك أن يكف عن أذاه ، كان بلال رضي الله عنه يأبى في إصرار . و قد روي أن أمية بن خلف ، و هذا إن دل على شئ فإنما يدل على السلام الداخلى الذي كان يتمتع به بلال بن رباح رغم قسوة التعذيب ، ذلك أنه قد عرف طريق الحق و الهداية و الطمأنينة و الأمن ، فلم الخوف والجزع ؟ ! ومثال آخر يدل على المعنى الحقيقي للسلام ، تسطره هذه المرة سمية بنت الخياط رضي الله عنها ، أول شهيدة في الإسلام . تلك المرأة العظيم الجليلة التي كان أبو جهل يذيقها ألوان العذاب ، وهي متمسكة بدين محمد صلى الله عليه وسلم ، دون أن تتراجع عن موقفها الشجاع قيد أنملة . حتى أن أبا جهل كلت يداه من تعذيبها ، و ضاق بها ذرعا ، فقتلها شر قتلة .
خلاصة القول ، أن السلام الحقيقي ينبع من داخل الإنسان ، من إيمانه ، وعقيدته ، و هذا بغض النظر عن الظروف و الملابسات التي تحيط به . فالناس فــي هــذه الحيــاة لا يملكون أن يختاروا ظروفهم ، أو أسرهــم ، أو أسمائهم أو طبقـاتهم ، أو مجتمعهم ، أو ابتلائاتهـم . و لكنهم يملكون ما هو أهم من هذا ، يملكون ردة فعلهم تجاه كل هذه الأشياء : فإما أن يختاروا معــاداة قـدرهـم في حياتهـم وبالتالــي تـزداد معاناتهـم و تعاستهــم ، أو أن يختاروا ـ و هو لأسلم ـ تغيير الواقع إن أمكن ، أو تقبله بعلاته ، والتعايش معه . ويعيشوا في سلام كتلك العصفورة ، رغم كل الصعوبات و الابتلاءات التي تنهمر كالشلال في قوته و سرعته .
0 التعليقات:
إرسال تعليق